واد الشعــــــراء

صلاح المحمدي

 

" ورأيت الحكماء في حكمتهم يبيعون منها ويأكلون خبزا ..

حديث الحكمــــة

قال سلمان : حدثنا عتبة قال :

كان ابن ابي عاتكة يقول في مجلس الوليد بن مروان اخي عتبة المعروف بالالف : " .. ان السموأل كان يكذب على العرب ، كذا كان يحدثني عكرمة بن سلمة رحمه الله ."

قال الوليد : " كيف كان كذب السموأل عن العرب يا ابن ابي عاتكة ؟ "

قال : " أليس هو القائل :

اذا سيد منا خلا قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول ا ا

قال الوليد : " بلى ا هو القائل ونعم ما قال وما نظم."

قال : " ها هي الاسياد والشعراء تروح ولا تغدو وتموت ولا تحيا مذ عهود وما قام فيكم عبد ولا خصي لا هو قال ولا هو فعل ا ا"

قال : فأطرق الوليد ساعة ثم قال : " يا ابن ابي عاتكة ابيت اللعن ، الا فاخبرني ما شأن واد الشعراء سمعتك تقوله في بعض حديثك ا "

قال : تواعد شعراء من بعض بطون العرب على ان يتلاقوا بموضع سماه لي على طريق الشمال وكانوا لا يعرفون عن بعضهم الا نزرا يسيرا او قال كانوا يتجاهلون بعضهم بعضا .. فلما جن الليل، وقد اجتمعوا يتناشدون ، سرت عليهم ريح داعب وكثر الرعد والبرق ونزل المطرغزيرا وأجاءتهم شؤبوب قوية على ان ينزلوا بواد قيل لهم فيما بعد " واد الشعراء" وهو واد كريب غير ذي زرع ولا ضرع مسالكه كثر، لا يسكنه الا جارح الطير والضاري من الوحش والسباع ، ولا يأتيه البشر الا لماما ولا يزوره زائر ، فله أتي عتي متى سال لم يبق على احد، ومااعترض سبيله شيء الا جرفه .. فجزعوا ونزلت بهم كأباء شديدة فقال حجر الكلبي : " ليس أجبن من ان نموت غرقا ، يجرفنا السيل مع ما يجرفه من العيدان الغضة والجذوع المستأصلة والزهر اللين الطري فتذهب ريحنا ولست احشى الموت ، ولكنني أخشى ان تجد العقبان والوحوش جسدي فتعافه وتأبى ان تواري جيفتي بطونها ، ولا اجد حينها من يحفظ سوأتي وذلك هو الهلاك."

قــــــــــــال : فبينا هم على ما هم عليه من الشدة والبأس اذ هتف بهم هاتف ارتعدوا له وقالوا : " هو اليوم الاخير او قالوا هو الحشر." قال فأجابهم صوت اجش غليظ لا يعرف له مأتى : " اخرسوا فلست احب هرجكم ومرجكم هذا ا ". فنظر القوم في وجوه بعضهم بعضا وهمس ابن الاعسر : " لقد هلكنا ا ولن يتركنا مارد الجن هذا أحياء ، وان فعل ، فسنقضي ما بقي لنا من العمر نجوب القفار والبيادي، كابن مسعود الانباري، نحدث الناس عن الجن والحن وبني هنام * ، فيسخرون منا ويتلقانا الصبية بالحجارة والعصي ا ا " . فأجابه الهاتف : صه يا أعسر الشؤم ا ا كذا ديدنك في الحياة الدنيا وكذا شأنك ، تؤمن بالجن والشياطين المردة وتكفر بالاحياء من الناس. لو شاء أصحابك لاخبرتهم بقصتك."

فتكلم زيادة الاعجم وكليب وقالا : " ما قصته يا مولانا ؟ "

قال: " ان صاحبكم كان لا يستحي ان تمرغ لحيته في التراب وتعفر جزاء درهم او دينار، وكان يألف مجالس القوم مع الهلاك والصعاليك فيأكل مما وضع على الموائد ويلتقط الخبز ويلعق ما بقي من النبيذ في الطست . كما كان يتقول الشعر او يأخذ المخلوقة فينسبها الى نفسه، والقوم السكارى بين معجب يفغر الفاه وجاهل أفن لا يدري ما يقول.. فهو على حاله تلك حتى ذاع امره بين العرب وتناقل اسمه الناس ، واشتهر بينهم وقل قائلهم ابن الاعسر أشعر القوم فتهاتف عليه شيوخ القبائل ورؤساؤها كل يرغب في مديح ابن الاعسر كل يريد أن يذكره بطيب القول. فأخذه العجب بنفسه ودفعه على ان يترفع عن مجالسة الناس واصطنع لنفسه خلة يجلس اليهم يحدثهم في شأن الشعر والشعراء ، يرفع من قدر هذا ويحط من قدر ذاك. والملا يعجبون له . ورب الكعبة لولا اني أشفقت عليه كنت قد بعثت قاصفا من ريح تعصف به ولا يستطيع له ردا."

فاسود وجه ابن الاعسر كقطعة من الليل وهو كظيم لا يكاد يخفي ما به من الحزن والشدة ينظرفي وجوه اصحابه الذين قعدوا يتغامزون ويلحنون .. لولا ان تكلم الهاتف وقال :

" وأنت أيضا يا كليب ا أو أتظن بنفسك أنك قد نجوت وفزت بجهلنا عن قبيح فعالك وسولت لك نفسك الهزء بصاحبك وازينت لك الدنيا حين انكشف أمر ابن الاعسر وخلت اننا سنتركك . كلا ا يا ابن مرة ، فلا أحسبك نسيت يوم أرسل لك المجدوع شيخ بني زهرة يستعينك عل أن تحارب معهم بلسانك في حربهم فأبيت وقلت : " لن أستعمل لساني فيما ليس لي فيه " حتى بعث لك بجاريتين وبغلة بيضاء وبعض الدنانير ، فاذا الشعر ينساب من فمك اللعين ا يقدح أعداءهم ومن والى أعداءهم وحلفاءهم ويسب أخيارهم . أو تذكر يا كليب يوم قدم عليك أخ لك وقال يستعطفك : " اتق الناس في لسانك يا ابن أمي فاني لا أحسبهم سيتنكبون عن معاقبتك وما هم بتاركيك , فاربأ بنفسك فما لك والهجاء ؟ وما لك والحروب ؟ " . فقلت له : " كلا ا والله ا ان القوم لما تخالعوا وتناهضوا للضراب والصدام وأضمر كل فريق لعدوه الشر والسوء ، علمت أنه ليس أنفع من الهجاء والمشاركة " . فمازلت تهجوهم حتى بعثوا من يتقفى أثرك من الشطار وقطاع الطرق واللصصة .. فأنت الى يومك تتستر وتتخفى عن عيونهم. أو تذكر يا كليب رجاء صاحبك عامر الملقب بــابن بصير أن تنتهي عن فعالك وتكف لسانك ، وأنت ممعن في غيك وطغيانك ، تخال القوم غافرين لك ذنبك صافحين لك وهو يقول : " يا كليب مالك والحروب ؟ وأنت امرؤ تتكسب بشعرك وتنتجع بنظمك أفان هزم بنو زهرة قضيت العمر هائما تواري وجهك عن الناس خشية النصل وحذر السيف ." يا كليب كأين من مرة دعيت فلم تجب ونهيت فلم تنته .. مع اني أجد أكثر شعرك باردا ساقطا ما لمست فيه ما يجده سقط المتاع من طرافة وبعد عن الاسهاب في غير اسراف بل جاء أغلبه "كأولاد العلات" * وذكر قولا لخلف الاحمر جاء فيه : " وبعض قريض القوم أولاد علة " وقد غاب عني شطر البيت .

قــــــــال عتبة : ولا يعلم محدثي ماذا حدث بعد لشعراء العرب واصحاب الادب وصناعة النظم على ان الرأي الساري بين الناس ان الهاتف اختطفهم فاذا هم سراب لا ظل لهم ولا غبار.. "

قال الوليد : "هذا عجيب يا ابن أبي عاتكة ، قد عرفنا حال الشعراء فما حال الشعر والأدب والخطابة وصناعة الكــــــــلام ؟"

قــــــال ابن ابي عاتكة : " أطال الله عمرك ا حال ما ذكرت كحال المياميس البغايا في الحوانيت يزني بهن الخاصة والعامة ويطؤهن النغل والشريف ."

حديث الحكــمــة : من كتاب " حدث أبو هريرة قال ..." لمحمود المسعدي

* بنو هنـــــــام : حي من أحياء الجن

* أولاد علات : أبناء لاب واحد وأمهات مختلفات ، أراد به التفرق

ACCEUIL|CLUBS|النوادي|نادي الادب العربي|