لم تنطفىء القناديل

التلميذة وفاء الدربالي

المعهد الثانوي الشابي بالقصرين

سار بخطوات بطيئة .. ترك رأسه تميل يمينا ويسارا في حركة منتظمة ، شك للحظة في دوران الارض .. الايام بالنسبة اليه ثانية .. يحمل وجها .. عام لعين كون في أعماقه طبقات من الجليد .. زرع في نفسه صقيعا غريبا .. كل شئ أصبح حوله باردا .. انتبه الى الضجة التي أحدثتها القطط المتجمعة على أكوام القمامة .. زجرها بقرف .. التقط حجرا صغيرا وقذفها .. تقافزت أمامه مرغمة على ترك وليمتها المفضلة.. رمق بقايا السمك المتناثرة باشمئزاز .. تلكأت احدى القطط محاولة اختلاس لحظة تجاهل منه .. تناول حجرا أكبر وقذفها بغيظ .. فرت مسرعة ثم اندست في احدى الكروم ..

انطلق لسانه يلعن السمك والقطط.. والمختار الذي يتشدق بهدوء القرية ونظافتها.

نطق الكلمات الاخيرة وتلفت حوله .. تأكد من خلو الشارع من المارة ، لماذا لا يحتاط ؟

مركز المختار قوي هذه الايام .. ثم ان هناك بعض الافواه تهمس باتهامه في حادثة المختار منذ عامين .. " .. أثبتت الترحيات تعامل المختار مع الصهاينة .. كذلك تصرفاته لا تخفي ذلك .. تهديداته لاهل القرية .. تأييده لمحاولاتهم بتضييق الخناق على المنطقة وحصرها .. لكن .. كأنه قطة بسبعة أرواح .. نجا من الموت بأعجوبة .. " أشاح بيدة لطرد ذبابة وقحة... تخلى عن شكه في دروان الارض .. ذكره الدباب بالصيف .. وبالقادمين معه للزيارة ... عليه أن يستعد للولائم الفاخرة ... والاحاديث المتكررة عن السيارات والنقود ... و ... الحنين للقرية ا ...

انطلق بغل « قاسم » الى الشارع محدثا ضجة كبيرة ... حاول ايقافه دون جدوى ... خرجت أم عباس من بيت جارتها ... وعندما رأته ورأت البغل مبتعدا تطوعت بالحديث ..

- اشترى قاسم سيارة فاخرة .. صار من أعيان البلد ...كيف يركب البغل... انه تاجر ذكي مع الكل : انجليز .. يهود .. فجأة صرخت المرأة .. لطمت على وجهها ... اكتشفت انه لم ينج من أرجل البغل الا اثنان من صيصانها... ماتت أربعة تحت ارجله الطائشة.

لعنت ام عباس قاسم وبغل قاسم وسنين قاسم.

***********

ألقت تحية على الاجسام المكورة عند مسجد القرية ... استعرض الوجوه المألوفة ثم انضم الى الطابور البشري. تابعت عيناه أنامل " أبي القاسم " التي نشطت في اعداد لفافته المفضلة ... وعندما حول نظره عنها كانت سيارة «  المرسيدس » الفاخرة قد استقرت بقربهم ... ترجل أبو قاسم بعباءته الفضفاضة ... ألقى التحية بكبرياء ... تسابقت الالسن ترحب به ... وتبارك له السيارة الجديدة .. نادى مسعود ولده الذي يلعب في الشارع .. همس بكلمات في أذنه .. وبعد دقائق كان قاسم يدخن النرجيلة مستقرا على كرسي متحرك ومع كركرة نرجيلته عاد خمسة عشر عاما ..

وصلت صينية الشاي التي خرجت من دار مسعود انقض محمود على الصينية وخطف كوبا منها نهض " ابو عمران " اخذ الكوب من يده .. وصفعه على قفاه ثم قدم الكوب لابي قاسم.

" ليتك حولت كفك الغليظة الى قاسم هو من اخبرهم عن بندقية ابنك السجين...القرية كلها تعرف ذلك ا لكنك جبان تسعى لتلك الوظيفة الحقيرة مثلما يسعى مسعود لعضوية مجلس القرية سفهاء ا تبا لكم ولعقولكم الضامرة وطموحاتكم المتدنية .. تلعبون الورق تدخنون النرجيلة. تبصمون على تدمير انفسكم وكأن شيئا لم يعدث ا تعودون الى منازلكم .. تملاون بطونكم ثم يعلو شخيركم "

مر بنظره على الوجوه دفن راسه في صدره بانكسار التجأ مسعود اليه باكيا متحسسا قفاه .. طيب خاطره هدأ من روعه نظر محمود الى ابي عمران تحسس قفاه ثم قال بصوت هامس ..

ـ سأسلط عليه الاشباح

ـ اية أشباح يا محمود ؟

ـ الاشباح الثلاثة التي رأيتها ليلة أمس ا

ـ اسكت .. اسكت يا محمود

نظر محمود الى قاسم وقال " لقد عادوا . انتهت الايام الباهتة يا مجلس النفاق جادوا بالقناديل .. التي تضئ المخلصين وتكشف الوجوه الزائفة .. جاءوا ليطهروا الجرح .. يا بقايا صديد الجرح.." التقطت عيناه الشاب الاسمر الذي مرق من امامهم كالسهم تظاهر بتذكره لموعد من أحد أقاربه .. ونهض .. وبعذ ذقائق كان في بيته يصافح الشاب بحرارة ...

ـ أحشى ان يكون مسعود قد عرفني.. لقد راني في الليلة السابقة ا

ـ لا .. لم يعرفكم .. ظنكم أشباحا ... ا متى يصل الاخرون

ـ بعد ساعتين

رمق الاعشاب الكثيفة التي خبأ فيها بندقيته.. ثم راح يتأمل حبات البرتقال كأنه يراها لاول مرة.. مد يده ونزع بعض الاغصان الجافة ,, تحسس الثمار الناعمة بشوق,, قطف واحدة منها .. قدمها للشاب ثم قال :

" الحمـــد لله لم تنطفئ القناديل. »

ACCEUIL|CLUBS|النوادي|نادي الادب العربي|