ترجمة الشاعر

 

بقلم محمد الامين الشابي

 

أبو القاسم الشابي 1909/1934

 

هو من ابناء القرن العشرين الذين نشأوا فيما بين الحربين العالميتين الاولى والثانية ايام كان العالم العربي يتعثر بين حاضره الاليم وماضيه القريب المنقوص ،ودعاة الاصلاح وانصار الجديدفي تلك الفترة الانتقالية ، انمايلقون جحودا واذى لا تزيدهماسيطرةالغرب على الشرق ، وشموخه بحاضره ، ووثوقه بمصيره ، الا احتداما وسطوة لدى فريق واسع من الخاصة والعامة على السواء.

بيد أن الشاعر لم يتردد كثيرا حتى عرف سربه فانضم اليه ، ثم صدح محلقا الى ان اختطفته يد المنون وهو في ريعان الشباب. كان والده من خريجي الازهر ومن مجازيه ، وبه درس اولا فاقام بمصر في اوائل هذا القرن سبع سنين ، ثم درس بتونس بجامع الزيتونة سنتين ، حصل بعدهما على الطويع ، ثم سمي قاضيا شرعيا لسنة من ولادة بكره ابي القاسمفتصرف في قضاء كثير من البلدان التونسية. كان يقضي يومه بين المحكمة والمسجد والمنزل حيث يتبسط مع اهله ، ولقد نشأ ابو القاسم سني تكوينه الفكري والخلقي في كنف رعايته الصالحة يقتبس من علمه وادابه. كان رحه الله صادق التقاة ، قوي العقيدة لا يخشى في الحق لومة لائم ، له غيرة علىشؤون المسلمين والاسلام ، تنفعل نفسه بما يجرى انذاك من احداث بالشرق العربي وطرابلس الغرب او بلاد الريف. قال الشاعر متحدثا عن ابيه : = انه افهمني معاني الرحمة والحنان ، وعلمني ان الحق خير ما في هذا العالم واقدس ما في هذا الوجود=. لم ينشا ابو القاسم بمسقط راسه ، فقد حرج عنه في سنته الاولى ولم يكد يعرفه الا قليلا ، اثناء قدمتين اقام فيهما نحوا من ثلاثة اشهر ، الاولى عند ختانه في الخامسة من عمره ، والثانية زائرا ، وقد استغرقت جولة الاسرة عشرين سنة ضربت في بحرها بالبلاد التونسية طولا وعرضا ، متنقلة من قابس الى سليانة فتالة ، ومن مجاز الباب فراس الجبل فزغوان . وبين هذه المدن من الاميال ما يقدر بالمئات احيانا ، وعلى نسبة ذلك اختلاف العادات واللهجات والمشاهد الطبيعية. فلم تكن واحة قابس كبسائط مجاز الباب يغمره الحصيد ، ولا هذه كبساتين راس الجبل ، او كجبل زغوان يكسوه شجر الصنوبر ، ولم يكن حر قابس كثلوج تالة ، ولا حياة الفلاحين بمجاز الباب كحياة صيادي البحر بقابس او راس الجبل ولا طباع اهل الشمال كطباع اهل الجنوب. هذه مراحل ابي القاسم وشبابه عملت على تضخم تجربته ، وتدفق شاعريته ، وازدهار ريشته ، بيد ان الشاعر افاد بما يفيده كل عابر سبيل متيقظ واع ، اذا ما استقر بارض كان ربيبها لا ابنها الاصيل. فأطلقه هذا المصير من حدود البيئة الضيقة واكسبه «  تونسية " انسانية الافاق.

قدم ابو القاسم الى العاصمة سنة 1339 ه ـ 1920 م. للدراسة بجامع الزيتونة في الثانية عشرة من عمره ، وقد تكون سريعا ، وقال الشعر باكرا . كون نفسه ثقافة واسعة عربية بحتة جمعت بين التراث العربي في ازهى عصوره وبين روائع الادب الحديث بمصر والعراق وسوريا والمهجر، ولم يكن يعرف لغة اجنبية ، فتمكن بفضل مطالعاته الواسعة من استيعاب ما تنشره المطابع العربية عن اداب الغرب وحضارته. وكانت اول نشراته في الصفحة الادبية التي كانت ترتبها «  النهضة " كل اثنين ـ سنة 1342 ه ـ 1926 م . وفي سنة 1346 ه ـ 1927 م . ظهر شعره مجموعا في المجلد الاول من كتاب" الادب التونسي في القرن الرابع عشر » وفي نفس السنة القى بنادي قدماء الصادقة محاضرة حول " الخيال الشعري عند العرب » كانت مادة الكتاب الذي نشر بنفس العنوان في النسة التالية. وانك لتجده وهو يواصل دراسته ويضع شعره في صميم حركات الاصلاح التي كانت تعتلج بها النفوس انذاك من بعث لحركة الشبان المسلمين ودعوة وتجديد الجهاز الثقافي التقليدي ، ومناصرة لحركة تحرير المرأة ودعوة للتجديد في الادب تحتل المكان الاولمن نفسيه وقد احدث كتابه « الخيال الشعري" الضجة الكبرى واستهدف الشاعر بسببه بحملة صحافية عنيفة ثبت لها ثبات الرائد المؤمن بما يقول.نشرت هذه الاثار في حياة والده، فلم ينكر عليه مذهبه ، ووجد الشاعر في تسامح ابيه ما يعزز جانبه ويثبت خطاه. وفي هذه الاثناء (سنة 1929 ) نكب بوفاة والده المحبوب، ولد رافقه عليلا من بلد زغوان "الى توزر » مسقط راسه ، وتجرع غصص مرضه وطفحت الكاس بموته وهو في الخمسين من عمره ، فاضطلع باعباء عائلة كبيرة واختار طريقا وعرة ، فانه ـ ظنا بحرية الاديب والشاعر ـ لم يلج باب الارتزاق من المناصب الحكومية ورضي بحياة بسيطة على راس اسرته بتوزر حيث تزوج ، ولعل هذا الذي عاناه بعضهم حين قال :" كنا نى في نفسه الزكية مثال القناعة في افضل الوانها والطموح على خير وجوهه " .وفي السنة نفسها اصيب بداء تضخم القلب ، وهو في الثانية والعشرين من عمره ، بيد انه رغم نهي الطبيب لم يقلع عن عمله الفكري ، وواصل انتاجه نثرا وشعرا. وقد نشرت له سنة 1933 بمجلة " أبولو" المصرية قصائد عملت على التعريف به الاواسط الادبية بالشرق العربي ، والى ابي القاسم اوكل صديقه الدكتور احمد زكي وشادي تصدير ديوانه «  الينبوع". لم يكن الشاعر المريض يغادر توزر الا في الصيف ويقصد المصطافات الجبلية كعين دراهم بالشمال التونسي سنة 1932 ، والمشروحة ببلاد الجزائر سنة 1933 . وشرع اثناء المصيف سنة 1934 في جميع ديوانه " اغاني الحياة" بينة طبعه بمصر فانتسخه بنفسه بحامة الجريد مستعينا ببعض ادبائها، ولكن باغتته المنية وحالت دون ما نوى. فقد انتابه المرض بغاية الشدة وقصد تونس" يوم 26 من اغسطس سنة 1934 وبها توفي سحرا يوم 9 اكتوبر سنة 1934 ثم نقل جثمانه الى بلده " توزر" حيث قبره. نحيف الجسم ، مديد القامة ، قوي البديهة ، سريع الانفعال ، حاد الذهن ، تكفكف رقة طبعه من غرب عاطفته وحدة ذهنه يراه اصدقاؤه " بشوشا ، كريما ، وديعا ، متأنقا ، طروبا لمجالس الادب يحب الفكاهة الادبية " ويراه من لا يخالطه حيا محتشما ويعرف من هؤلاء اولايك صراحة حازمة قوية يبديها لخاصة خلطائه في غير ما تحرج متى اجتمع بهم ويجاهر بها العموم في شعره ونثره. وكان محبا لبلاده ، صادق الوطنية يؤمن بان لقادة الفكر رسالة انسانية سليمة حاول حهده ان يحققها في اثناء حياته القصيرة قولا وعملا .

تونس في 12 من افريل سنة 1954

م.أ.ش.

ابو القاسم الشابي||مواقع ادبية| مادة العربية|المواد التعليمية|النشاط الثقافي|الصفحة الرئيسية